RSS

ما بقى في أخلاق : بح بح

03 سبتمبر

د. وائل كرامه كرامه

ربَّ ضارةٍ نافعة ، مقولةٌ لطالما أحببتها وكانت الأحداث يوماً عن يوم تثبتُ لي صحّتها. فلعل من إيجابيات الحرب wael karameالأهلية البغيضة التي إجتاحت لبنان في السبعينات ، هذا إن كان للحروب من إيجابيات ، أنها أجبرت أهلي على ترك بيروت ومنزلنا الذي ولدتُ فيه في عين الرمانة والنزوح القسري بإتجاه بلدتي عين زحلتا ، مسقط رأسي في الجبل…

رغم خسارتنا لكل ما نملك في ذلك الوقت العصيب ، فالله الرحيم منَّ علينا بالنجاة ولم يُصَب أحدٌ منا بأذى ” وزمطتنا ” بأرواحنا سالمين… والإيجابية التي أتكلم عنها ها هنا تتلخَّص أننا تربينا ، أخواتي وأنا ، في بيئة القرية اللبنانية الأصيلة ضمن كنف والد أصيل مناضل ( النضال لا يقتصر على السياسة ) عمل جاهداً على تعليمنا على دماثة الأخلاق والأدب والواجب بالتعاون مع مدرسة الراهبات القلبين الأقدسين في عين زحلتا والمحتوية على خيرة الراهبات الضاجات ذوقاً ورقياً ورفعةً…

ربَّ ضارةٍ نافعة

أجل ، بالإضافة الى الطبيعة الخلابة واللعب في الحقول والقرب من الله في إنعكاساته النوارانية في الشجر والنهر والصخر والبشر…

وقد إنطبعت أجواء الضيعة في كل تفاصيل حياتي وشخصيتي من أهمية القيام في الواجبات الإجتماعية ومشاركة الناس والأهل والأقارب في الأفراح كما في الأتراح… أذكرُ جيداً كيف كان والدي رحمه الله يحثني دائماً على مرافقته في الواجبات ويرفض أحياناً كثيرة أعذاري لعدم الذهاب معه مهما كانت منطقية وملحَّة حتى عذر الدرس والإمتحانات مع تقديسه لقضية العلم والتحصيل العلمي…

حتى أنني أذكر جيداً في إحدى المرات وقد كنتُ دخلتُ الجامعة الأميركية حينها وفي السنة الأولى كيف أصرَّ أن ينزل من الضيعة الى بيروت ليصطحبني الى الضيعة لكي أقدِّم واجب العزاء بوفاة أحد أقاربي رحمه الله وذلك في زيارة خاطفة لنصف ساعة فقط ومن ثم إنزالي مرةً ثانية الى السكن الجامعي في بيروت لإكمال تحضيري للإمتحانات والعودة هو بمفرده ثانيةً ومن جديد الى القرية… ” لن تأخذ عملية قيامك بالواجب وقتاً منك أكثر من مسافة الطريق ونصف ساعة هناك… لا أعذار تقف أمام القيام بالمواساة والواجب… وأنا لا أقوم مقامك، أنتَ أصبحتَ شاباً وتساهم عن نفسك…”

قرقعة القاف

ربَّ ضارة نافعة ، ساهمت أجواء القرية بكل تأكيد وإتقاني للغة العربية التي تثبتت أكثر بعد الإجتياح الصهيوني للبنان وانتقالي من مدرسة الراهبات إثر اقفالها القسري الى مدرسة العرفان في عشقي للغة الضاد والأدب. كما كان لقرقعة القاف أيضاً التي يُشتهر بها أهل الجبل عامةً وخاصة أبناء التوحيد الفضل الكبير في عشقي للشعر وفن الخطابة وإعتلاء شرف المنبر.

ولكن لي بعض العتب على أبي رحمهُ الله أنه لم يحدِّثني كثيراً عن أولاد الحرام والحذر منهم ومن الشرِّيرين وأعمالهم الشريرة… أظنَّهُ لطيب نفسه لم يشأ أن ” ينقِّزني ” من الحياة وترك لي ولا سيما بعد وفاته مشقة إختبار الحياة وإكتشاف ما فيها من سواد مقابل البياض ومن بشاعة مقابل الجمال ومن قلة أصل وقلة أخلاق عند الكثير من البشر مقابل الأصالة والأخلاق عند بعضهم… والأمور تزداد قتامةً…

لا أرغب أن أبدِّل ما تربَّيتُ عليه من أصول كما أني لو رغبت لن أستطيع لكن أجد صعوبةً كبيرة في التعامل مع الناس… فالتواضع مع المتعجرفين ضعف ، والإحترام للنفس وللناس عند بعض صغار النفوس يُفسَّر طيبة زائدة وأحياناً ” غباء ” وعدم تقدير للذات… لا أطيق مثلاً أن أتصل بشخص تربطني به معرفة على الهاتف مرة او مرّتين ولا يرُّد إتصالي ولا يعود يبادر هو الى الإتصال بي حين يتمكن من ذلك… أنا أفعل ذلك عندما أكون في مكانهِ ، فلما الآخر لا يفعل… لا أطيق أن أجهد نفسي بأمرٍ معين من أجل مصلحة شخص وحمايته، وبالأصل ليس من واجبي أن أفعل ذلك، ولا ناقة لي ولا جَمَل بالأمر سوى أن الصدفة حدفتني أمام خدمته، كالذي حصل معي منذ مدّة حيث اكتشفت شخصاً محتالاً ينتحل شخصية فنان معروف وعملت جاهداً لحماية هذا الفنان وزوَّدتهُ بكافة المعلومات الضرورية ولم أحصل منه حتى على كلمة واحدة، برسالة تؤكد لي وصول المعلومات اليه أولاً ( مع علمي أنها وصلت ) او على الأقل عبارة ” شكراً على تعاونك”…

فعلاً أخلاق بح بح

ما هذا الجبر الذي يتغلغل في نفوس الكثيرين من البشر … حادثة أخرى حصلت معي حديثاً ، كيف يمكن لرجل بشاربٍ مفتول أن يكذب بكل وقاحة ومن أجل المال ولا يجد خجلاً في ذلك ويتعدى على حقوق الغير ولا يجد أدنى إحراج في ذلك… فعلاً أخلاق بح بح… كيف يمكن لشخص أن يكون قد تصرَّف بطريقة غير لائقة معك أن يراك في اليوم التالي ويكلمكَ بطريقةٍ عادية كأن شيئاً لم يحدث… ما هذه الوقاحة والمنسوب المرتفع من الهمجية والشر والإنحدار ، بالله عليكم …

زرتُ أميركا عدة مرات ومكثتُ فيها أشهراً عدة ، وكانت تجربتي فيها جدّ إيجابية من حيث تعامل الناس معي والذوق والرقي والأصول وأدب الإيتيكيت ( وليس فن الإيتيكيت ) الذين يتمتعون بهِ… لقد كان العميد الذي أصبح صديقاً لي واسمهُ دكتور جيري شوكُن يُصر يومياً على إصطحابي من الفندق في سيارته الخاصة وإرجاعي في المساء، ولا يتلقى اي عزيمة إجتماعية خاصة الا ويتصل بي لإصطحابي برفقتِه وحتى مباريات الباسكت بول لفريق الميامي هيت كان له فضل اصطحابي لمدينة ميامي في فلوريدا لحضوري تلك المباريات…

البروفسور وليم يونغ أشهر أطباء الغدد في مستشفى مايو كلينيك وفي كل أميركا والعالم أوقف عيادته لمدة ساعتين في آخر يوم لزيارتي له كطبيبٍ زائر لكي يأخذ لي الصور الفوتوغرافية بكاميراته الخاصة في أماكن مهمة في حرم المستشفى الكبير يعتبرها عناوين للزيارة… أين نحن من أخلاق الشعوب الأخرى ؟؟ الشرق في إنحدار والغرب في رقي مستمر وتطور دائم لإحترام حقوق الإنسان وحماية الفرد وتعزيز مفاهيم العائلة والصداقة والتكافل الإجتماعي … هم في صحوة ونحن في كبوة … الذي يظن مما يعرفني جيداً ويحاول التذاكي عليَّ او التكبُّر او الإساءة أنني لا أستطيع أن أردّ له الصاع صاعين فهو مخطىء، وجدُّ مخطىء … لو أردتُ لفعلت … لكنني لا أريد أن أتنازل عن تعاليم أبي ومدارس الرقي التي تلمذتني على يد خيرة أساتذتها في لبنان…

أخجل أن أخذلَ يوماً روح أبي في عليائه وأساتذتي في الراهبات والعرفان والليسة ناسيونال والجامعة اللبنانية والأميركية والذين علمّوني ليس فقط العلم بل الأصول والمناقبية … لستُ مثالياً لكنني أحاول أن أحافظ على ما أنا فيه اليوم لأني أحبهُ ومؤمن به وأريد أن أنقلهُ الى أولادي من بعدي … الله لا يِخْلينا … بح بح أخلاق عند بعض او كتير من الناس … بس بالنهاية لا يصح الا الصحيح ، وما الذي يحصل في عالمنا العربي اليوم من فظاعات سوى الدليل القاطع على ما أقول … شكراً أبي ، شكراً ضيعتي ، شكراً مدرستي ، شكراً لبنان النقي ، شكراً أصدقائي الحقيقيين ، وكل من يؤمن بما أؤمن … لكم مني ألفي تحية وأطنان من مشاعر الإمتنان … أحبكم جداً!
والسلام

أبو ظبي

*****

بالاشتراك مع aleph-lam

http://www.georgetraboulsi.wordpress.com

 
أضف تعليق

Posted by في سبتمبر 3, 2014 بوصة فشة خلق

 

أضف تعليق