RSS

أذكر، إذا استطعت أن تنسى !

08 مارس

بقلم: الأب كميل مبارك

 في زمن الصوم المبارك من رماده المنسحق إلى القيامة المجيدة مروراً بأسرار الخميس وأعظم أيام الزمن على الإطلاق، غالباً ما نسمع عبارات تُذكّر pere-camille-1الإنسان بأنه من تراب يعود إليه ليوقظ في قلبه وعقله رغبة العزوف على كل ما ينسيه آنيته على الأرض، وتدفعه إلى النظر في ما يصل به إلى الحياة الأبدية ويضمن استمراره بقاءَ بحضرة الله.

  كما نسمع ترداداً وتكراراً كلمة السيد المسيح أمام المجرّب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. لنتأمل بما فيها من دعوات ملحة إلى معرفة ذاك الخبر النازل من السماء الذي، إن أكل منه الإنسان، لا يعود إليه الجوع أبداً. وفي عمق أعماق هذه الدعوات والتأملات والتجرد والتخلي والزهد والانقطاع والرجوع إلى الذات، والسعي إلى غاية الإنسان القصوى التي بذل الله ابنه الوحيد ليفتح للإنسان بابها، تستيقظ أحياناً في بال ساحق من عديد الناس، أمور تتنافى مع ما قلناه وتثقل بالهم وتضع بين أعيننا علامات استفهام حارقة متسائلين: كيف لنا أن نتبع هذه المنارات المضيئة وأمور الدنيا تظلِم فينا كل شعاع يبشر بالخير؟

 وتساءلت في سريرتي بأي كلام أجيب لو طرح أحد علي ما يجول بباله وما يقلق كيانه من أثقال الأرض ومتاعبها، وحاولت أن أسبر كنه بال هؤلاء علّني أستقي من هواجسهم جواباً على ما يقولون، فرأيت، وإليك ما رأيت.

 رأيت كلاماً في الصوم والزهد، يدفع هؤلاء إلى العمل والكدّ والبذل والجهد، لأنهم يصومون معظم أيام السنة من دون طاعة الوصيّة التي تدعونا إلى صوم الصوم الكبير وسائر الأصوام المفروضة، وما ذاك إلا نتيجة القلّة وانقطاع موارد الرزق، وكثرة ما يرهق المعيول في سبل سدّ رمق عياله.Thomas_kennington_orphans_1885

 ورأيت صور التشرد والمرض والموت تملأ  القرى والمدن والأطراف والأرياف، وما بقي في ذاكرتي من صورهم، تلك الأيدي الممدودة خلف حافلات الإغاثة، وتلك العيون المسمّرة بمن يعطي ويعطي ولا يصل بعطائه إلى كل محتاج، وتلك الأفواه الفارغة تلتقط ما تساقط من فتات الخبز على التراب الذي ندعو الناس إلى التذكر أنهم منه، فيأكلونه مجبولا بالوحل والدموع.

 ورأيت على مفارق الطرق وفي زوايا الأزقة أولاداً لا يعرفون الصوم قانوناً، ولكنهم يعيشونه سلوكاً، قست عليهم الأيام فشردتهم واستغلهم تجار الرقيق، فزرعوهم هنا وهناك يلتقطون ما يُرمى لهم من قروش وما يُقذفون به من كلام، فيحتفظون بهذا ويؤدون حساباً لمالكيهم عن ذاك.

 ورأيت في مقاصف الليل ومواخيره فتياناً وفتيات لا تخطر ببالهم دعوات الصوم إلى ذكر التراب ولا يهمهم الخبز الذي قلنا إننا لا نحيا به ونبقى، لأن غذاءهم المرصود وأملهم المنشود خبز أزرق يأتي من مصانع التخدير، ومشربهم ماء بعيد كل البعد عن الماء، ولا يجمعه به سوى أنه سائل يدخل سهلا ويزرع  وحلاً.

 ورأيت ورأيت، فأغمضت عيني وعدت إلى ذاتي لأرى نفسي قبل سواي، وأدرك حق الإدراك عما إذا كنت قد طبعت في ذهني وقلبي تلك الآيات المتوقدة، وعما إذا كان يرافق قراءتي لها وسماعي لها مسار يهتدي بها فارعَويت.

 كلام الصورة

لوحة اليتيم لتوماس كنينجتون

 

أضف تعليق