RSS

الأسس الفكرية والسياسية للميثاق الوطني 1943

07 نوفمبر

د. عبد الرؤوف سنّو

شكل التعايشُ بين اللبنانيين، سياسياً ومجتمعياً، في الماضي وفي الحاضر، وبالصيغة التي كان عليها ولا يزال، أكبر تحدٍ لهم. فالتعايش السياسي يفترض أن يتضمّن sinnoوسائل لتطوير نظم الحكم لتستوعب التنوّع والتعددية بشكل أفضل، وهذا لم يحصل بموجب الميثاق الوطني، ولا باتفاق الطائف في العام 1989، في حين أن التعايش المجتمعي يتطلب من مختلف الجماعات الدينية تحديد علاقتها مع بعضها البعض، وكيفية وإمكانية تطويرها واستدامتها وتطبيعها. وهذا اصطدم على الدوام بجدار الطائفية المجتمعية وبالمصالح الفئوية للقوى الطائفية.

قد يقول البعض إن وصول لبنان إلى ما وصل إليه بعد ميثاقي 1943 و1989، هو نتيجة خطأ تاريخي في تأسيس “دولة لبنان الكبير”، وتحوّل الطوائف الدينية، التي فقدت سيادتها السابقة في المقاطعات اللبنانية، إلى أقليات عليها أن تتعايشَ معاً تحت مظلة دولة، ما أدى إلى إنتاج أقوى للهويات الطائفية. ولأن لكل طائفة فضاءها الخارجي، المرتبط بالهوية والدين والتجربة التاريخية، ويتم التعبير عنها بأيديولوجيات متنافرة، كان لا بد من ظهور ميثاق للتعايش بين الطوائف، أي القبول بالوضع القائم. من هنا، جاء الميثاق الوطني، فهل كان الحلّ في المستوى البعيد؟

سأقاربُ الموضوع من خلال:

• التجربة التاريخية للمسيحيين والمسلمين قبل تأسيس لبنان الكبير، وهي الأساس، برأيي، لمعرفة التجاذبات الطائفية.
• لبنانَ الكبير المرغوب فيه مسيحياً والمرفوض إسلامياً: هل هو خطأ تاريخي؟
• تسويةِ الميثاق التي أعطت اللبنانيين فرصة ثلاثة عقود ليبنوا عليها ويطوروها، لكن ذلك لم يحصل، ولم يتم بناء وطن.
• عواملَ انفجار الميثاق وسقوطه في العام 1976. هل حصل هذا بفعل الوجه الخارجي له، أم حصل بسبب “الصيغة”، وهي تقاسم “الجبنة” على أساس طائفي؟

****

بالنسبة إلى التجربة التاريخية، أبدأُ بأواخر القرن التاسع عشر، حين كان لبنان، بحدوده الحالية، يتضمن مكونين دينيين رئيسيين: مسيحيون في جبل لبنان ينشدّون إلى الغرب ثقافياً وسياسياً، ويتطلعون نحو استقلال ناجز عن السلطنة العثمانية، ومسلمون، غالبيتُهم في المدن الساحلية خارج الجبل يعتبرون أنفسهم جزءاً من أمة عربية إسلامية على رأسها الدولة العثمانية. صحيح أنّ الوعي العروبي لدى مسيحيين ومسلمين قد تبلور عشيّة الحرب العالمية الأولى بجهود نخبٍ مسيحية وإسلامية في اتجاه اللامركزية تحت الحكم العثماني، إلاّ أنّ المسلمين فهموا اللامركزية على أنها عدم الخروج عن “الرابطة العثمانية”، الإسلامية، في حين استخدمَ المسيحيون العُروبة قاسماً مشتركاً يجمعهم مع المسلمين في سبيل التخلّص من الحكم العثماني. ثم تضافرت جهودهم المشتركة خلال الحرب للتخلّص من الحكم العثماني (ثورة الشريف حسين بن علي)، لكنّ عشية تأسيس دولة لبنان الكبير، شهدت العلاقات افتراقاً بين الجانبين: زعامات إسلامية تسعى إلى اعتبار لبنان جزءاً من دولة عربية بقيادة الملك فيصل بن الحسين، ويخلط بعضُها – مع قواعده الشعبية- بين الإسلام والعُروبة، ومسيحيون، غالبيتُهم موارنة، يريدون إنشاء وطن قومي مسيحي بدعم فرنسي، خوفاً من إسلام يزحف عليهم بلباس العروبة.

قد يسأل البعض عن سبب هذا الافتراق بين مكونين طائفيين رئيسيين عاشا قروناً طويلة على أرض واحدة، وجمعتهما تحالفات حزبية بعيدة عن الطائفية (القيسية واليمنية)، لكن من دون أن ينغمسا من قبل في تجربة بناء كيان سياسي يجمعهما. فلم يكن التلاقي بينهما خلال الحرب العالمية الأولى كافياً للبناء على فكر سياسي يجعلهما ينخرطان في كيان واحد، بسبب التجارب التاريخية والتوجهات الأيديولوجية المتنافرة، وجدار الطائفية المجتمعية، و”نظام المِلّة” العثماني الذي لم يُؤسّس مُواطَنة، وأفاد المسيحيين للعمل على تأسيس كيان مستقل ذاتياً (المتصرفية). فتقوّى اقتصادهم وخصوصيتهم وشخصيتهم الثقافية، وكذلك تطلّعاتُهم نحو الخارج. وتعزّز حضورهم المستقل بمعزل عن محيطهم الإسلامي، وصولاً إلى ادّعاء هُوية خاصة، نجدها في ما بعد في الكتب المدرسية وفي كتب التاريخ والأدب والشعر، وفي اللغة وفي الممارسة السياسية والاجتماعية.Bechara_elkhoury

وما أن “تأسلم” مشروع القومية العربية على يد النخب العربية المؤيدة للأمير فيصل، حتى انكفأ الموارنة إلى “لبنان الكبير”، مُتخلّين عن عُروبة كانوا هم رُوّادها، وخلَط المسلمون بينها وبين الإسلام. فبات الموارنة مع صيغة لكيان لبناني مستقل تحت الانتداب الفرنسي بحدوده الراهنة، فيما وقف الأرثوذكس إلى جانب المسلمين يؤيدون الدولة العربية “الفيصلية”، استناداً إلى مجاهرتهم بالعروبة وإلى علاقاتهم التجارية الواسعة مع سورية. هذه المتغيّرات العميقة جعلت المسيحيّين، الموارنة تحديداً، والمسلمين يقفون وجهاً لوجه في الكِيان الجديد: اعتبر الأولون أنه يعبّرُ عن هُويّتهم الخاصة المنفصلة عن محيطهم العربي الإسلامي (الكيان المسيحي أو القومية اللبنانية)، بينما رأى المسلمون أنه يسلبهم من عمقِهم الإسلامي وهويتَهم العربية، وأنه مشروعٌ فرنسي “صليبي” لخدمة الموارنة.

إن أول عيب رئيسي ظهر في “دولة لبنان الكبير”، هو أنها قامت على التخويف الديموغرافي (إحصاء 1922 و1932) المرتبط بالسياسي (توزيع السلطة والارتباط بالخارج)، والثقافي (ذوبان المسيحيين في ثقافة المسلمين وقيمهم)، وبمخاوف المسلمين تجاه خسارتهم عمقهم العربي-الإسلامي، وبالتالي الانتقال من مرحلة الأمة صاحبة السيادة في “دار الإسلام”، ليصبحوا أقلية كباقي الأقليات الأخرى في دولة رأوها “مصطنعة” خاضعة للانتداب الفرنسي “الاستعماري”؛ فعزفوا عن الدخول إلى الإدارة اللبنانية الجديدة. وتعززت هذه المشاعر الإسلامية بسقوط “الخلافة العثمانية” على يد كمال أتاتورك في العام 1923 والذي تسبب بصدمة للمسلمين في العالم وفي بلاد العرب والشام، فكيف بتحوّل مسلمي لبنان إلى تبعية لدولة مسيحية تحت حماية “الاستعمار”؟

ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن فرص التعايش التي كان بإمكان لبنان الكبير أن يوفرها كوطن تعددي فريد في المنطقة، قد سقطت في اليوم الأول لولادة الدولة الناشئة، التي اعتبر موارنة ومسلمون قيامها خطأ تاريخياً، لأنها أفقدت كلاً منهما السيادة التي تمتع فيها سابقاً في حيزه الجغرافي، وجعلت ثقافتين في مواجهة بعضهما بعضاً. من هنا، سار الموارنة قدماً في بناء لبنان الكبير استناداً إلى أنه “صنعَ” من أجلهم، مستندين إلى خصوصية ثقافية -حضارية وتطور تاريخي سحيق، فيما بقي المسلم يرفض الكيان الجديد ومشدوداً إلى سورية باعتباره جزءاً عربياً – إسلامياً منها، تاريخياً وجغرافياً.

صحيح أن دستوراً لبنانياً أُقر في العام 1926، وعُيّن أول رئيس للجمهورية (أرثوذكسي) في السنة نفسِها، إلا أن الطائفية المجتمعية تعززت بسبب:

• توسيع حدود جبل لبنان بضمّ مسلمين من “بلاد الشام” وبيروت ومدن ساحليّة إليه، ما أغصب المسلمين الوحدويين، فاعتبروه انتصاراً للمسيحية على الإسلام، والقومية اللبنانية على القومية العربية، وتحدياً لهم، وأن فرنسا تعمل لمصالحها وتحابي المسيحيين وتفضلهم على المسلمين. حتى الأرثوذكس قاوموا بداية لبنان الكبير، ورفضوا استئثار الموارنة برئاسة الجمهورية وبالسلطة بعد العام 1934. وهذا جعلهم متناغمين مع الموقف الإسلامي الرافض للكيان الجديد.

• تأكيد الدستور الطائفية “الموقتة” في المادة 95، بشكل متناقص مع المادتين 7 و12 من الدستور نفسه: حول التساوي في الحقوق المدنية والسياسية، وفي تولي الوظائف العامة. وهذا تسبب بنقمة إسلامية، مع تغيّر الديموغرافيا تدريجياً لصالح المسلمين. وفي العام 1925، فشلت محاولة لإجراء انتخاب للمجلس التمثيلي على أساس غير طائفي.Riyad Soulouh kirsi

• فشل وصول مسلم إلى رئاسة الجمهورية (الشيخ محمد الجسر) في العام 1932، بسبب اللاءاتِ الفرنسية والمارونية، ما أدى إلى ظهور قناعةٍ لدى المسلمين بأن قوى مارونيةً دينية وسياسية ترفضُ وصول المسلم إلى منصب رئاسة الجمهورية، ما يعني عدم الثقة بوطنية المسلم، ويعني أيضاً إنه ليس شريكاً على قدم المساواة في الحكم.

• ثقافة المسيحيّين المتأثرة بالغرب وإمساكهم بالاقتصاد، ما سمح لهم بالتمايز على المسلمين، وصولاً إلى ادّعاء ثقافة وخصوصية مختلفة عن المسلمين في الداخل، وعن المسلمين في “الجوار”، في مقابل ثقافة عثمانية لصقت طويلاً بالمسلم وجعلته عاجزاً عن اللَّحاق بشركائه في الوطن، لأسبابٍ ثقافية واقتصادية وتاريخية معروفة.

• تهديد المسلمين بالانسحاب من لبنان الكبير والمطالبة بدولة فدرالية، وهذا التهديد استخدم كفزاعة في وجه المسيحيين، في كل مرة كانت لديهم مطالب في لبنان الكبير. وسوف يستخدم المسيحيون الموارنة بدروهم في ما بعد “الفدرالية” كفزاعة يبتزون فيها المسلمين للقبول بهيمنتهم على الدولة اللبنانية الناشئة.

الطريق إلى الميثاق الوطني

هناك عوامل عدة جعلت الطوائف اللبنانية تتوافق على الميثاق الوطني:

• إجماع غالبية المسيحيين على أن لبنانَ الكبير أصبح حقيقةً واقعة، ولا يمكن العودة عنه إلى لبنان الصغير، وفي المقابل، إدراك نخب إسلامية الحقيقة هذه، وأن الوحدة مع سورية أضحت سراباً بعد المعاهدة بينها وبين فرنسا في العام 1936، واعتراف الحكومة السورية بلبنان الكبير بحدوده الجديدة التي ضُمّت إليه، وبالتالي أن لا سبيل أمامهم سوى الانخراط في مشروع الدولة.

• ظهور فكرٍ إسلامي منذ مؤتمر الساحل 1936، لا يرفضُ العروبةَ، ولا يرفض لبنان في الوقت نفسه، يعتبر أن بإمكان المسلمين أن يكونوا عروبيين من دون وحدة عربية، وأن ينتموا إلى لبنان الكبير أو المستقل من دون التخلي عن ارتباطهم بالعرب. في المقابل، ظهور قناعةٍ لدى نخب مسيحية بأن لبنانِ الكبير لن ينهض ويتقدم من دون جناحه المسلم. على كل حال، لم تغب فكرة الوحدةِ مع سورية قبل الميثاق وبعده عن الخطاب الإسلامي، ولا الفكرة عند المسيحيين الموارنة بأن لبنان كيان خلق من أجلهم بحماية فرنسية، حتى أن البعض منهم سبق وفكر بالعودة إلى “لبنان الصغير” مضافاً إليه مدينة بيروت وسهل البقاع فقط (إميل إده، وسليمان البستاني، ومطران بيروت أغناطيوس مبارك إلخ..)، من أجل الحفاظ على “الهوية المسيحية” للبنان وعلى “الأمن السياسي” المسيحي، وكي لا تُبتلع ثقافة المسيحيين وقيمهم ومستقبلهم الكياني بتنامي الديموغرافية الإسلامية.

• الانخراطُ التدريجي لبرجوازية بيروتَ السنية في الاقتصاد اللبناني إلى جانب البرجوازية المسيحية. وهذه المصالح الاقتصادية المشتركة أدت دوراً مهماً في التوافق السياسي بين الموارنة والسنّة، خصوصاً أن النخبَ السياسية كانت منخرطةٌ بقوة في الاقتصاد. وقد ظهر اقتصاد مختلط، رغم ضعفه، كان كافياً لبلورة مصالح سياسية مشتركة.

• ظهور إرادة عربية لقيام تسوية في لبنان على أساس خصوصية لبنان من جهة، وعروبته من جهة أخرى. وهذا ما أفسح في المجال أمام دخولِ لبنانَ في ما بعد إلى جامعة الدول العربية كتجسيد للميثاق في تحييد لبنان عن مشاريع الوحدة أو عن الصراعات بين الأنظمة العربية، والاستفادة من الانفتاح الاقتصادي على العالم العربي.

التجربة الميثاقية: الفشل أكبر من النجاح

شكل “الميثاق الوطني”، وهو اتفاق شفوي بدأ العمل عليه منذ العام 1938، تسوية بين دُعاة الكيان المسيحي اللبناني وبين القوى الإسلامية التي كانت ترى أن لبنانَ جُزء من سورية. كما شكل الميثاق توافقاً على تقاسم الحكم (الصيغة) على أساس نسبي يتعلق بحجم كل طائفة. وقد تمثل هذا التيّار ببشارة الخوري ورياض الصلح. غير أنّ أهم ما في التجربة الميثاقية، هو أنها كانت اتفاقاً على “التعايش”، مع الإبقاءِ على الفروقات والاختلافات بين الطوائف، أي اعتماد “ديمقراطية توافقية” لا تهمش أحداً من الطوائف، وأن الطوائف هي الركن التأسيسي للدولة والسلطة والنظام السياسي، كما يتبين من أربعة مبادئ أساسية للميثاق، وهي:

1. أن تكون رئاسة الجمهورية للمسيحيّين الموارنة، ورئاسة مجلس الوزراء للسُنّة، ورئاسة المجلس النيابي للشيعة.
2. توزيع السلطة والوظائف على أساس التناسب العددي بين الطوائف (ستة للمسيحيّين، وخمسة للمسلمين)، وفق إحصاء 1932 (الصيغة)
3. التوافق على صيغةٍ لهُويّة للبنان جاءت ملتبسة (لبنان ذو وجه عربي).
4. اعتماد الحيادية في سياسة لبنان الخارجية.

لقد أضحى المبدأ الأول، كما الثاني، محط تجاذب بين المسلمين والمسيحيين، عندما أخذ الأولون يحتجون على استئثار المسيحيين بالسلطة ومفاتيحها، وبخاصة رئاسة الجمهورية ذات الصلاحيات الواسعة، في وقت بدأت فيه “الديموغرافيا المشاغبة” تتحوّل لصالح المسلمين. أما بالنسبة إلى المبدأ الثالث، فتحوّل إلى أيديولوجيات متنافرة لتبرير الخصوصيات وبالتالي اختراع هويات خاصة: لبنان القومي المسيحي، ولبنان العربي بحضارته الإسلامية. أما المبدأ الرابع، فلم تحترمه الطوائف الدينية، منذ أن “استعملت” الخارج من أجل الاستقواء على الطوائف الأخرى في الداخل، ومع الوقت تحوّلت هذه الطوائف إلى أدوات بأيدي الخارج الذي تتبعه طائفياً أو مذهبياً.

لقد أمّن الميثاق بالفعل سلماً أهليّاً مقبولاً لأكثر من ثلاثة عقود، جعل من لبنان حيّزاً جغرافياً لتجميع طوائف من دون توحيدها أو صهرها في بوتقةٍ وطنية واحدة، أي خلق وطنٍ لجميع أبنائه. على العكس من ذلك، تعزّزت الطائفية بفضل الحالة الطائفية المجتمعية وحرية الطوائف في ممارسة سياستها التعليمية والتربوية (التعددية الطائفية والثقافية)، وغياب أي حديث عن إلغاء الطائفية السياسية في البيانات الوزارية، والحفاظ على المادّة (95) من الدستور وفي الدساتير المُعدَّلة لاحقاً. فكانت الخلافات الطائفية حول المناصب والمراكز، والقرار السياسي، ومسائل الإنماء، مجالاتِ نزاعٍ داخلي. كما لم تلتزمَ الطوائف بالميثاق ببُعده الخارجي ولا بمقولة رياض الصلح: “لا شرق ولا غرب”، وبقيت تتطلّع نحو الخارج، أو تُحرّكها سياساته وأيديولوجياته، في ظلّ نظام طائفي يفرّق ولا يجمع.

ومع تغيّر الديموغرافيا تدريجياً لصالحهم والتي لم يلحظها الميثاق، بدأ المسلمون يتطلعون لانتزاع ما يمكن انتزاعّه من “امتيازات” مارونية. في الماضي، حصل المسيحيون والموارنة تحديداً على مكاسب في الحكم باعتبار أنهم الطائفة الأكثر عدداً، بينما أدعى المسلمون بعد ذلك أنهم أصبحوا الأكثرية العددية؛ فكانوا يتساءلون: لماذا عليهم إذاً أن يقبلوا بالتوزيع السابق للمناصب؟ كانت عيون المسلمين على رئاسة الجمهورية ذات الصلاحيات المفصلية الواسعة، وهذا ما أخاف المسيحيين والموارنة تحديداً على مستقبلهم السياسي في لبنان.

ولم تكن المسألة تتعلق بمن يخدم لبنان أكثر وينمّي شعبَه، بل في الاستئثار بالسلطة، في وقت ظهر فيه أن اللبنانيين نسوا أهم مبدأ في “الميثاق الوطني”، وهو التعايش رغم الاختلاف. وبذريعة الحرمان والغبن، سوّغ المسلمون لانقلاب سياسي ضد المسيحيين يضع السلطات في أيديهم. صحيح أن الغبن والحرمان والإنماء غير المتوازن كانت أسباباً للتوتر المجتمعي، إلا أنها لم تكن سبباً في يوم من الأيام لاندلاع القتال بين اللبنانيين. لقد تمكن السياسيون اللبنانيون، “أكلة الجبنة” بامتياز، من إدارة نزاعاتهم من دون صدام عسكري.Camille_chamoun

وفي العام 1958، اندلعت حرب أهلية “صغيرة” بسبب الخوف المتبادل بين المسلمين والمسيحيين حول السلطة وحول ما كان يدور في محيط لبنان: الانتخابات البرلمانية 1957 التي تلاعب بها الرئيس شمعون للإتيان بمجلس نيابي يواليه، وزحف الناصرية على لبنان، فكراً وسياسة، وتعاطف الجماهير الإسلامية مع وحدة عربية قد تحسّن من مركزهم السياسي. وفي المقابل، انخرط الرئيس شمعون في مشروع الأحلاف في المنطقة علّها تقوي من مركز المسيحيين في لبنان في وجه الناصرية الزاحفة عليه. لكن هذه الحرب أفسحت في المجال أمام حرب أكبر وأوسع في العام 1975، اختلطت فيها الأسباب الداخلية (سعي المسلمين واليسار لتقليم أظافر المارونية السياسية ووضع السلطة في أيديهم، وتمسّك المسيحيين بما حققوه من إنجازات)، والأسباب الخارجية، من عامل فلسطيني وسوري وإسرائيلي. لم يكن بإمكان المسلمين واليسار الانقلاب على الامتيازات المارونية لولا الدعم الفلسطيني. كما لم يكن بإمكان الموارنة أن يثبتوا بوجه ما يُخطط لنزع دورهم في لبنان، لولا دعم إسرائيل وسورية، وإن كان في نهاية الأمر لصالح كل الدولتين. كل هذا أسقط “الديمقراطية التوافقية” ميثاقاً وصيغة.

وفي العام 1976، كانت كل القوى المتحاربة متفقة على أن التعايش السابق فقد جدواه وفعاليته. فطرح المسلمون ديمقراطية الأكثرية التي تؤمن لهم السيطرة على الحكم، لكن هذا النوع من “الديمقراطية” القائمة على الطائفية كانت تُقصي المسيحيين وتسبب لهم الخوف، ومثال أحوال المسيحيين في المحيط العربي ماثلة أمامهم. في المقابل، راوحت مشاريع المسيحيين ما بين اللامركزية، والتقسيم والفدرالية.

إن الترحّم على الميثاق والاعتقاد بإمكان استعادته، على الأقل بالنسبة إلى مضامينه الفكريةِ السياسية حول التعايش بين الطوائف، وبأن لبنان التعددي قلعة الحرية في محيط قمعي متفجر ومشتعل، لن يجدي نفعاً. ففي العام 1943، اتفقت طائفتان رئيسيتان على الميثاق، من دون باقي الطوائف الأخرى، وما قبلتا به، فُرض على الآخرين. وفي العام 1989، اتفقت كل الطوائف على “وثيقة الوفاق الوطني”، من دون أن تُترجم الوثيقة وحدة وطنية، في ظل الاحتلال السوري للبنان والطائفية السياسية التي لم تلغ، والطائفية المجتمعية التي تغذيها.

واليوم، في ضوء هيمنة سلاح حزب الله، والدعوات إلى المثالثة، وانشداد الطوائف نحو الخارج والتبعية له، وما يتهدد لبنان من أخطار “داعش” وأخواته، فلا مكان لميثاق وطني جديد متوازن يحقق مصالح جميع الطوائف. من هنا، تكثر الدعوات إلى الفدرالية كحل، لن يؤدي برأيي إلا إلى التقسيم. لقد قدم “اتفاق الطائف” الفرصة أمام اللبنانيين لتقاسم السلطة على أساس المناصفة، مع نزع صلاحيات من رئيس الجمهورية الماروني، وجعل السلطة في مجلس الوزراء مجتمعاً. حتى هذه “التسوية”، قد لا تستمر في ضوء الدعوات إلى “المثالثة” وإلى أسلمة لبنان. وفي ضوء تغيّر الديموغرافيا لصالح المسلمين وانتشار الأصولية المتشددة بينهم، سنّة وشيعة، وتحوّل التوازن السياسي لمصلحتهم، فمن غير المؤكد أن يستمر التوافق على المناصفة. وهذا يعني أن “ميثاقاً وطنياً” لن يجدي نفعاً، طالما أن توزيع السلطة سيكون مرتكزاً على أساس طائفي.

أين الحلّ؟

يبقى السؤال الملح: لماذا استطاعت شعوب أخرى قامت على كل أنواع التعددية من إقامة وطن وأمة، فيما فشل اللبنانيون في ذلك؟ الجواب يكمن في عدم بناء مجتمع علماني أو مدني يتساوى فيه الجميع، ولا التأسيس للعدالة والديمقراطية في ظل طائفية ومذهبية مستشرية، كما في الثقافة المجتمعية والنظرة إلى “الآخر”، وأخيراً وليس آخراً، في ظل عدم الاتفاق على الهوية، وتحصين السياسيين والمواطنين ضد وباء “الخارج”. من هنا، لا مكان لأي ميثاق وطني بين اللبنانيين أن يحيا، طالما أن “المكتوب” لا يحترم ولا يُطبق، وبقاء المصالح المشتركة بين الطوائف في إطار البروتوكولي والوظيفي.

إن أفضل حلّ للمعضلة اللبنانية أن يتفق اللبنانيون جميعاً على الحلّ الأصعب، وهو السعي إلى لبنان دولة مدنية تستوعب الأديان. فكل المواطنين يتمتعون عندئذ بالمساواة وبالحقوق والواجبات، ويمكنهم أن يمارسوا عقائدهم وشعائرهم بكل حرية في ظل دولة مدنية، لكن يبقون أبناء وطن بالنسبة إلى الدولة لا أبناء طوائف. هذا الحلّ الصعب يجب العمل عليه، ولن يُطبق في ظل الأوضاع الحالية السائدة. فيجب عقد المزيد من اللقاء والحوارات بين رجالات الفكر والسياسية والاجتماع لوضع تصور يتوافق عليه في خصوص رؤية مشتركة لدولة مدنية.

******

(*) عميد سابق لكلية التربية- الجامعة اللبنانية، أستاذ متقاعد في الجامعة اللبنانية 

(*)محاضرة ألقيت في مقر “التيار الوطني الحرّ” بدعوة من لجنة الدراسات  ونشرت في جريدة “اللواء” بتاريخ 3 و4  أكتوبر  2014

******

كلام الصور

1- الرئيس بشارة الخوري

2- الرئيس رياض الصلح

3- الرئيس كميل شمعون

 
أضف تعليق

Posted by في نوفمبر 7, 2014 بوصة قضايا

 

أضف تعليق